دكتور مصطفى محمود

الله هو المحبوب وحده على وجه الأصالة وما نحب فى الآخرين إلا تجلياته وأنواره فجمال الوجوه من نوره وحنان القلوب من حنانه فنحن لا نملك من أنفسنا شيئاً إلا بقدر ما يخلع علينا سيدنا ومولانا من أنواره وأسمائه

Thursday, October 21, 2010

بدلة الاسير..قصة قصيرة

كان جحشه بائع سجائر أول السابقين الى محطه الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار وكان يعد المحطه بحق سوقه النافقه فيمضى على الافريز فى نشاط منقطع النظير يتصيد بعينيه الصغيرتين الخبيرتين ولعل جحشه لو سأل عن مهنته للعنها شر لعنه لأنه كبقيه الناس برم بحياته ساخط على حظه ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأغنياء فيرتدى لباس الأفنديه ويأكل من طعام البك ويرافقه الى الأماكن المختاره فى الصيف والشتاء مؤثرا من أعمال الكفاح فى سبيل القوت ما هو أدنى الى التسليه والملهاة على أنه كانت له أسبابه الخاصه ودواعيه الخفيه لايثار هذا العمل وتمنيه من يوم رأى الغر سائق أحد الأعيان يتعرض للفتاة نبويه خادم المأمور فى الطريق ويغازلها بجساره وثقه بلك سمعه مره يقول لها وهو يفرك يده حبورا سآتى معك قريبا ومعى الخاتم ورأى الفتاة تبتسم فى دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها والحقيقه أنها أرادت أن تبدى عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت ...
رأى ذلك فالتهب قلبه وأحس الغيره تنهشه نهشا موجعا وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض وكان يتبعها عن كثب ويقطع عليها السبيل فى الذهاب والاياب حتى اذا خلى بها فى عطفه أعاد على أذنيها ما قال لها الغر سآتى قريبا ومعى الخاتم ولكنها لوت عنه رأسها وقطبت جبينها وقالت باحتقار : هات لك قبقاب أحسن فنظر الى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفى جمل وجلبابه القذر وطاقيته المعفره وقال : هذا سبب شقائى وأفول نجمى ونفس على الغر عمله وتمناه على ان آماله لم تقطعه عن مهنته فثابر على كده قانعا من آماله بالأحلام وقصد فى ذلك الأصيل الى محطة الزقازيق يحمل صندوقه وينظر القادم ونظر الى الأفق فرأى القطار قادما من بعد كأنه سحابة دخان وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزائه ويتاصعد ضجيجه حتى وقف على افريز المحطه وهرع جحشه الى العبات المتراصه فرأى لدهشته على الأبواب حراسا مسلحين ووجوها غريبه تطل من النوافذ بأعين ذاهله منكسره فقيل لهم بأن هؤلاء الأسرى الايطاليين تساقطو بين يدى عدوهم بغير حساب وأنهم يساقون اليوم الى المعتقلات ...
فوقف جحشه متحيرا يقلب عينيه فى الوجوه المغبره ثم أدركته الكآبه لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبه الغارقه فى البؤس والفقر لن يكون فى وسعها اشباع نهمها من سجائره ووجدهم يلتهمون ضندوقه بشراهة جوع فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار وهم أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى ولكنه سمع صوتا يصيح به بالعربيه بلهجه أفرنجيه قائلا : سجائر فحدجه بنظره دهشه وريبه ثم فرك سبابته بابهامه : أى نقود ففهم الجندى وأومأ برأسه فاقترب محاذرا ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندى فخلع الحندى جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها : هذه نقودى فتعجب جحشه وتفرس فى الجاكته الرماديه ذات الأزرار الصفراء بين الدهشه والطمع ووجب قلبه ولكنه لم يكن ساذجا أو مغفلا فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسه للايطالى وأبرز فى هدوء ظاهرى علبة سجائر ومد يديه ليأخذ الجاكته فقطب الجندى جبينه وصاح به : علبه واحده بجاكته ؟ هات عشرا فذعر جحشه وتراجع الى الوراء وقد غاض طمعه وأوشك أن يأخذ فى غير السبيل فصاح به الجندى : أعطنى عددا مناسبا تسعا أو ثمانيه فهز الشاب رأسه بعناد فقال الجندى : اذن سبعا ولكنه هز رأسه كما فعل فى الأولى وتظاهر بأنه يعتزم المسير فقنع الجندى بست ثم هبط الى خمس فلوح جحشه بيده متظاهرا باليأس وتراجع الى المقعد وجلس فصاح به الجندى المجنون : تعال رضيت بأربع فلم يلق له بالا وليدله على عدم اكتراثه أنه أشعل سيجاره ومضى يدخن فى تلذذ وهدوء فثارت ثائرة الجندى وأهاجه الغضب وبدا وكأنه ليس له غايه فى الوجود سوى الاستيلاء على سجائر فهبط بطلبه الى ثلاث ثم اثنين ولبث جحشه جالسا يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طمعه ولما نزل الجندى الى اثنتين أبدى حركه بغير اراده رآها الجندى فقال له وهو يمد يده بالجاكته : هات فلم ير بدا من النهوض ودنا من القطار حتى أخذ الجاكته وأعطى الجندى العلبتين وتفرس الجاكته بعين جذله راضيه وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر ووضع الصندوق على المقعد وارتدى الجاكته وزررها فبدت فضفاضه ولكنه لم يعن لذلك وتاه عجبا وسرورا واسترد صندوقه وأخذ يقطع الافريز فخزرا طروبا وارتسمت لعينيه ورة نبوية فى ملاءتها اللف فقال متمتما : لو ترانى الآن نعم لن تتجافانى بعد اليوم ولن تلوى وجهها عنى احتقارا ولن يجد الغر ما يفخر به على ولكنه ذكر أن الغر يرتدى بدلة كامله لا جاكته مفرده فكيف السبيل الى البنطلون ؟ وفكر مليا وألقى على رؤوس الأسرى المطله من نوافذ القطار نظرة ذات معنى ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر ودلف الى القطار ونادى بجرأه : سجائر سجائر العلبه بمنطلون لمن ليس معه نقود العلبه بمنطلون وأعاد ندائه هذا مثنى وثلاثا وخشى أن يغيب على الأفهام مقصده فمضى يومىء الى الجاكته التى يرتديها ويلوح بعلبة سجائر وأحدثت ايمائته الأثر المرجو فلم يتردد جندى أن يهم بخلع جاكتته ولنه سارع نحوه وأومأ اليه أن يتمهل ثم أشار الى بنطلونه يعنى أن ذلك بغيته وهز الجندى منكبيه باستهانه وخلع البنطلون وتم التبادل وقبضت يد جحشه على البنطلون بقوة يكاد يطير من الفرح وتقهقر الى مكانه الأول وأخذ يرتدى البنطلون وانتهى فى أقل من دقيقه فصار جنديا ايطاليا كاملا ترى هل ينقصه شىء الموسف حقا أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رأسهم بالطرابيش ولكنهم يضعون أقدامهم فى أحذيه ولا غنى عن حذاء ليتساوى بالغر الذى يكرب حياته وحمل صندوقه وهرع الى القطار وهو يصرخ : سجائر العلبه بحذاء العلبه بحذاء واستعان على التفاهم بالاشاره كما فعل فى المره الأولى ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير فتمخضت عن موجة نشاط شمل الحراس جميعا وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة وطائر الليل يحلق فى الفضاء فتوقف جحشه وفى نفسه لوعة وفى عينيه حسره وغيظ ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس فى عربه اماميه فبدا على وجهه الغضب وصاح بالانجليزيه ثم بالايطاليه : اصعد بسرعه أيها الأسير فلم يفهم جحشه ما يقول واراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده فى حركاته مستهزءا مطمئنا الى بعده عن متناول يديه فصاح به الحارس مره أخرى والقطار يبتعد رويدا ورويدا : اصعد انى احذرك اصعد فزم جحشه شفتيه احتقارا وولاه ظهره وهم بالمسير فكور الحارس قبضة يسراه مهددا وصو بندقيته نحو الشاب الغافل وأطلق النار ودوى عزيف الرصاصه يصم الآذان واعقبتها صرخة الم وفزع وتصلب جسم جحشه فى مكانه فسقط الصندوق من يده وتناثرت علب السجائر والكبريت ثم انقلب على وجهه جثة هامده ...

6 comments:

همس الاحباب said...

رائعة جدا ولها معنى ومغزى اعمق من مجرد كلمات
تسلم الايادى
تحياتى

اسكندراني اوي said...

زمان قالوا الطمع يقل ما جمع
طمع هو في اللباس فاورده مهلكه
بجد قصه رائعه فيها من العبر الكثير لعل اصحاب العقول يفهموا

نبض اسكندرية said...

ابو همس
نورتينى والله
ويسلم مرورك الكريم

نبض اسكندرية said...

اسكندرانى
والله زمان ياجميل
نورتينى والله
خالص تحياتى ودمت بخير

شاب فقرى said...

بقالى شهور مقريتش قصة للاخر
وبالذات فى المدونات
وبرده معلقتش لحد
عجبتنى جدا
وطريقة السرد مميزة
والفكرة جميلة والمعنى اجمل
والصياغة ملقتش جملة تطلعنى من الحالة
بسم الله ما شاء الله
تحياتى
شاب فقرى

نبض اسكندرية said...

شاب فقرى
فعلا القصة جميلة جدا
وفيها معنى كمان
نجيب محفوظ
قمة الروعة
نورتنى